التدريسية: جمانة جاسم الاسدي
ما المقصود بالنية؟
النية هي التصميم والعزم على الاتيان بأمر معين واجماع النفس على فعله بعد تصوره والتصديق بفائدته، فهي عزم القلب على الشيء: أي عمل القلب، وهي تنفع الناوي وإن لم يعمل العمل، كما أنها حالة كامنة في داخل النفس لا يعلم بها احد فهي تعد ميزان لقبول الاعمال والمعيار في قبولها كونها خالصة لله، لأنها الإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى وامتثالا لحكمه فالنية هي مدار عمل المسلم ومعيار ضبط الاعمال الشرعية من عبادات ومعاملات فتعد سبب الثواب الاخروي المبتغى بإخلاص.
فالإخلاص لله هو غاية الدين حيث يقول تعالى عز وجل: “ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن” (سورة النساء الآية 125)، ويقول امير المؤمنين (عليه السلام): “الإخلاص غاية الدين” وهو افضل العبادات، بل هو روح العبودية لله وجوهرها، كما قال الامام الصادق (عليه السلام): “افضل العبادة الإخلاص”.
والنية هي المحرك الأول للعمل، ايُّ هي الدافع والمحرض، فبصلاحها وسلامتها يكون العمل صالحا وسليما، وهنا قال النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم): “انما الاعمال بالنيات” و”نية المرء خير من عمله”.
فلابد من تخليص العمل وتصفيته من شوائب الرياء، وعليه فالعمل بهذا الشكل اصعب من العمل نفسه ولذلك قيل (الإخلاص في العمل أشد من العمل) وان روح العمل هي المهمة الأولى (أي بمعنى نية العمل أي النية الصالحة والخالصة لله تعالى)، فحقيقة الإخلاص تخليص نية الانسان وعمله من شائبة الرياء بحيث تكون خالصة لوجه رب العزة، وهذا لا يتحقق الا عند من كان محبا للرب، بحيث لا يبقى لحب الدنيا وحب النفس وملذات الحياة ومناصبها في قلبه من شيء، وقال تطبيقا على ذلك ان سبب نجاح إبراهيم (عليه السلام) في الامتحان الذي امتحن فيه (نيته الصادقة الخالصة لله)، ولذلك وبمجرد ان نجح في ذلك الاختبار الصعب، نهي عن تطبيقه عمليا وقال تعالى: “فلما اسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم” (سورة الصافات الآية 103 وما بعدها).
المخلص هو الذي لا يطلب من وراء أي عمل يقوم به سوى رضا الله تعالى، ولا يكون له غاية او دافع سوى محبته والتقرب اليه، بحيث تكون النية متجه دائما وابدا الى الرب، حبا به وطمعا في فضله وإحسانه، لان العمل الخالص هو الذي لا تريد ان يمدحك عليه احد سوى الله تعالى.
وان اعمال البشر مرهونة بالنيات الخالصة، فالإخلاص أساس الدين ودعامته التي يرتكز عليه في عملية بناء الانسان على خط الايمان بالله والتوجه الدائم اليه، فقال الامام علي (عليه السلام): “من لم يصحب الإخلاص عمله لم يقبل”، وقال أيضا: “طوبى لمن اخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بم ترى عيناه ولم ينسى ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما اعطى غيره”.
النية الخالصة تكمن بالعلم والمعرفة بأسس الدين ومبادئه ومعارفه الإلهية ومن دون هذه المعرفة يبقى الانسان ضعيفا ومتزلزلاَ، والتي بمقتضاها يكون الجزاء: اما ثواب واما عقاب، فكل عمل ظاهر يوافق شرع الله وسنة رسوله فهو عمل صالح، وبخلاف ذلك يكون العمل غير صالح، اصلح نيتك واخلصها لله سبحانه وتعالى فهي الوسيلة المباحة الى التقرب لله.
ما حكم النية اذا انفردت عن الفعل، والفعل اذا انفرد عن النية؟
اذا انفردت النية بحيث لا تقترن بعمل ظاهر، لا تترتب عليها احكام شرعية، فمثلا لو باع رجل داره في قلبه او مزرعته، ولم ينطق بلسانه فانه لا يترتب على ذلك الفعل الباطني حكم، فالأحكام الشرعية أنما تتعلق بالظواهر، وهنا نفرق بين امرين:
الأول/ اذا كانت الالفاظ صريحة فأنها لا تحتاج الى نية، بل يكفي حصول الفعل لترتب الحكم عليه، لان الالفاظ الصريحة لا تحتاج الى نية لاشتمالها عليه.
ومثال ذلك: ان يقول شخص لأخر بعتك هذه الدار او اوصيت لك بهذه الدار او المزرعة او سرق شيئا، فكل هذه الأمور لا تتوقف على النية بل يكون فعلها كافيا لترتب الحكم عليها.
الثاني/ أما اذا كانت الالفاظ غير صريحة، فيختلف حكم اللفظ الواحد باختلاف مقصد الفاعل، فالبيع او الشراء اذا استعمل بصيغة الفعل المضارع كقول البائع او المشتري أبيع واشتري وان القصد به الاستقبال، لا ينعقد، وعلى هذا يختلف الحكم باختلاف قصد الفاعل، اذ ان غير الصريح لا يعطي حكمه الا بالقصد فلا ينفصل الفعل عن النية فيه.
هل النية واجبة وما دليل ذلك؟
ان قوله تعالى: “وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء” (سورة البينة الآية 5)، وقوله تعالى: “ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم” (سورة البقرة الآية 225)، وكما في قوله تعالى أيضا: “وان تبدوا ما في أنفسكم او تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير” (سورة البقرة الآية 284).
تدل دلالة واضحة بأنها نعم واجبة، لأنها تحمل معنى وجوب القصد الى الله تعالى والإخلاص له بالعمل، فمتى قصد المرء الى ابطال تلك النية فقد بطل القصد الصالح من ذلك العمل، اذ لم يأتي به كما أمر من أصحاب النية إياه، ومن الأدلة القرآنية، على وجوب النية هي الآية سالفة الذكر في سورة البينة الآية 5 منها، والإخلاص هنا هو المقصود في كلامهم (النية) وقول الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) أيضا: “انما الاعمال بالنيات، وانما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”، فكل عمل يفتقر الى نية مصاحبة له مسلوب من توفيق وبركة الله فيه، فوجود النية يجعل من العمل عبادة، لا بل حتى ان النية هي جزء من متممات بعض العبادات العملية: (كالغسل، الهبة، الصيام، التيّمم، الزكاة، والحج) لان النية روح العمل العبادي وجوهره.
ما أهمية النية في العمل؟
تعد النية ركن من اركان الصلاة، ومدرسة تربوية تهذب النفس وتزكيها ويرتقي الانسان بها، ولا تعد ركن من اركان الصلاة فقط او ركن من اركان أي عمل صالح، بل هي في حد ذاتها مدرسة للتزكية، فلا يمكن ان تنطلق التزكية ولا التربية ولا الترقية من دون ان تتوفر النية الداعية لذلك كله، ذلك انها الواسطة بين العلم والعمل.
وبما ان النية تعبير عن الموقف الداخلي وعن التوجه الذاتي التي هي روح الفعل الحقيقي، لذلك تكون هناك فوائد للشخص حسن النية، وهي زيادة الحسنات ومضاعفة الاجر ونزول السكنية في القلب والاطمئنان ورفع الدرجات، كما انها طريق الى التقرب الى الله، وخصوصا نحن في زمن بحاجة ماسة الى ما يقربنا الى الله سبحانه ولو كان بالنية الحسنة الصالحة فقط، مع كثرة المغريات في الطريق الاخر.
ما الشروط الخاصة للنية؟
يشترط في النية عدة شروط: منها الإسلام والقربى لله تعالى والإخلاص، والصلاح، بالإضافة إلى موافقة العمل للشرع، وتوفر التكليف، والتمييز، والقصد اتجاه احداث المنوي عليه والعلم بالمنوي عليه علما كافيا محققا للدافع.
وهل للنية أنواع؟ ام انها على شاكلة واحدة؟
وجدنا ان للنية انواع متعددة نذكر منها:
الاولى: النية المفروضة (واجبة) بحيث لا يصح العمل او العبادة الا بها، كالنية في الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج، وهذه النية لا يكاد يغفل عنها أحد فاذا توضأ الانسان ليصلي او ليمس المصحف او ليكون طاهرا فقد اتى بالنية.
الثانية: النية المستحبة وهذه تتم لتحصيل الاجر والثواب، وهذه النية يغفل عنها كثير من الناس للأسف، وهي استحضار النية في المباحات لتكون طاعات وقربات.
وأخيرا يمكن القول :
ان الذي يعين على استحضار هذه النية هو التأني والتدبر، والتفكّر وعدم العجلة، فيفكر الانسان فيما يأتي ويحاسب نفسه قبل العمل فينظر هل هو حلال او حرام، ثم ينظر في نيته: ماذا أراد بذلك؟.
ومما لا شك فيه ونحن نعيش في زمن الصراعات والأزمات الاخلاقية والعبادية، فيجب علينا ان نراقب اقوالنا واعمالنا وقبلها نستحضرها بتهذيب نفوسنا، والاهم من ذلك كله هو محاسبة ومراجعة النفس وتذكيرها بآيات القران الكريم المقومة للعمل والقول والتعامل، والتدبر في تفسيرها واحرازها كي لا تفوتنا فرصة الثواب، لأعمال قد نجبل على ثوابها بمجرد النية دون القيام بها لظرف معين.
ونرى من سبل المعالجة لمنع فوات الاجور، ونحن بصدد مشروع النية الخالصة هو الاكثار من النيات الصالحة في كل الاعمال التي نقوم بها لأنفسنا (من تعبد وتهجد وتسبيح وطاعة وعمل شخصي وتبسم وتطهر واستحصال للعلم والمعرفة… إلخ) واهلينا (من بر وصلة للأرحام ودوام الحمل على المحامل السبعين وإيتاء الحقوق ومنع العقوق ونبذ كل ما من شأنه ان يؤدي الى الشقوق… إلخ) ومجتمعنا (من اماطة الاذى وافشاء السلام وصولا للمساعدة والتبسم والعظة والحرص عليه وتقديم ما ينفعه بالقول والفعل، ومحاولة منع ما يفشي الآثام والموبقات فيه… إلخ)، كما يمكن التعدد بالنيات في العمل الواحد مما يضاعف الثواب، فيكتسب ناويها اجرا لكل نية نواها بمجرد انعقادها في خلجاته، مما يثقل ميزانه بما لا يحصيه، فما اعظم الاسلام الذي نحن عليه!.